:


لا .. لست بحلم .. !!





لا .. لست بحلم
(أحن إلى خبز أمي , وقهوة أمي , وتكبر فيّ الطفولة .. )
استيقظ حسن على صوت الأغنية من منبه هاتفه النقال متعجباً :
- : كيف أصبحت هذه نغمة التنبيه , من عبث بهاتفي النقال؟!
لا يهم , المهم الآن إني أحن فعلاً إلى خبز وشاي بالحليب من يد أمي
نهض من سريره , غسل وجهه ثم وقف ملياً يتأمل ملامحه في المرآة ويُحدث نفسه
- : لست على ما يرام اليوم يا حسن





كان لديه شعور بالضعف والذي كان ينزع منه شعور التبلد العاطفي واللامبالاة التي طالما اشتهر بها , غسل وجهه أكثر من مره, راح يهز رأسه بقوه عله يُخفي هذا الشعور الغريب المثقل بعوامل مختلفة من الكآبة والحزن , ليعيد وضع قناع البرودة واللامبالاة , تناهى إلى مسامعه صوت سعال والدته وهي حتما تُعد الإفطار ,وهو تحت تأثير شعوره الغريب هذا الصباح , وكعادته أشعل لفافة تبغ وأخرج رأسه من النافذة حتى تنتشر رائحتها خارجا , لم يعشر برغبة في إكمالها ولأول مره أطفأها في حافة النافذة ورماها , فقد اعتاد أن يلقي بها مشتعلة ,ارتدى ثيابه , وضع عطراً وبمجرد أن استنشقه حتى خفق قلبه , لشيء ما ذكرته به هذه الرائحة لم يعرف ما طبيعته – انه إبراهيم , لماذا أتذكر إبراهيم هذا الصباح ؟! – فقط هي رائحة العطور حين تعتادها من شخص ما يكفي فقط أن تشمها بعد حين حتى يخفق قلبك بذكراه , رائحة العطور هي المنعش الأول لأطياف
الذاكرة , جلس على حافة سريره يضغط على رأسه بشده يبدو أن هذا الشعور المفاجئ بدأ يؤذيه
.



خرج من غرفته وجد طعام الإفطار جاهزاً , خرجت رغما عنه جملة – صباح الخير أمي

أمام المرآة في الممر الضيق الذي يُفضي إلى غرفتها كانت أخته سعاد تقف تتزين تستعد ليومها الدراسي , وحين سمعته انتبهت ونظرت إلية متعجبة وهي تمسك بخصلات شعرها ثم افترت شفتاها بقول ما لم يكن مفهوما ولكنة يعبر عن استنكارها.
جلس حسن على المائدة , ينظر إلى والدته تحرك الشاي بالحليب بطريقة رتيبة ,ناولته إياه تلقاه منها بقولة – شكراً أمي – حين سماعها لكلمته ظلت والدته ممسكة بالكوب لفترة حتى لامست أناملها يده فتركته , أما حسن فقد عاوده ذلك الشعور الغريب , أخذ رشفة ثم تأمل الكوب مليا وبدأ ويحدث نفسه
- : ماذا لو خرجت الآن وإذ بي حين أعود لا أجدها – يقصد والدته –
نظر إليها , ترتدي جلباباً داكن اللون , شاحبة اللون , كل طاقة حياتها من التضحية والحب تركزت حوله وأخته , تركزت حول رعايتهم , راحتهم والدفاع عنهم حتى على حساب راحتها, ولأول مرة شعر اتجاهها بمشاعر الابن لأمه , قطعت حبل تأملاته سعاد جاءت مسرعة , احتضنت والدتها كثيرا وقبلت جبينها وكفها وطلبت منها أن تدعو لها.
هنا فقط تيقن أنه تخلى تماماً عن اللامبالاة وتبلد المشاعر , فقد هزه تماماً ما حدث من سعاد تجاه والدته , وقف حمل كتبة الجامعية , سار حتى الباب , توقف برهة يفكر , ماذا لو يعود الآن ليقبل جبين والدته ويطلبها الدعاء , ثم استدار
- : أمي تريدين شيئا مني حين أعود ؟
- : أريد عودتك سالما يا ابني
خرج , توقف على عتبة الباب الخارجية , ثم جلس عليها , هناك الكثير من الأحداث المأساوية المُرة في حياة حسن , بدءاً من وفاة والده ثم مرض أخيه الأكبر إبراهيم ومن ثم وفاته, لم يتأثر بما حدث إطلاقا , فقط كان يكتفي بالجلوس على هذه العتبة يحدق في المارة هربا من النوح داخل المنزل , هو طموح جداً , الشيء الوحيد الذي يهتم لأمره هو دراسته فقط فهي تعني له تنفّس الحياة.
قال يحدث نفسه :
- : أوه يا الله ما بالي اليوم لست على ما يرام , لأول مرة لا أشعر برغبة في الذهاب إلى الجامعة , ماذا لو وقفت اليوم عاريا أمام ربي بأعمالي الخيرة أو الشريرة لأجيب على الأسئلة ؟!
بحسب النتائج المحسوسة ليس لدية رصيد كافي من الأعمال الخيرة تشفع له أمام ربة , ظل يفكر بشأن دراسته . كيف إذا مدح العالم بأسره علمه الذي اكتسبه وقد أغضب الله في الحصول علية .
نهض , ركب سيارته وانطلق بها ولا زال يفكر , استوقفه ازدحام شديد . استطلع الأمر إذ بها قطة مدهوسة بشكل مروع في منتصف الطريق . وأحد عمال النظافة يزيل أشلائها , فُتح جانب من الطريق يسمح بسيارة واحدة فقط للعبور , جاء دوره ليعبر , نظر نظره خاطفة على بقايا القطه , تفاجأ بقشعريرة بدأت تسري في جسده , وبتعرق كفيه , وبخفقان في قلبه , تجنب وأوقف السيارة
- : ويحك حسن ماذا دهاك ؟! حين شاهدت جثة طفل مدهوسة كهذه القطة لم تشعر بهذا الشعور , اكتفيت فقط بهز منكبيك مستنكراً , أوه يا ربي ماذا دهاني اليوم هل أنا مريض ؟! – تحسس حرارة جسده – أبدا لست محموما يا حسن , انه قلبي يخفق بشده نعم .. نعم انه قلبي , لقد نمت متأخرا ليلة البارحة – نظر في المرآة يتفحص عينيه – ما بها عينيّ تبدو كمن سُكب فيها ماء المحيط , يبدو أنني أحلم.
أدار محرك السيارة وسار بها , توقف أمام سوق الذهب ذو الممرات الضيقة , تجول فيه , ألقى نظره عابره على امرأة رثة الهندام تجلس على الرصيف برفقتها طفل في الرابعة تستجدي المارة , دخل محل صائغ ذهب واشترى قلادة لوالدته منقوش عليها آية الكرسي , أثناء خروجه عرج على المرأة رثة الثياب وترك في راحتها مبلغا لا بأس به من المال , وعاد إلى المنزل , أدخل المفتاح في القفل وأداره ,فتح الباب ودخل , والدته كانت تجلس على الأريكة في غرفة الجلوس تقرأ القرآن بصوت خافت , تفاجأة حين شاهدته وركضت نحوه تتحسسه وقد امتلأت رعبا
- : حسن يا بني هل حدث لك مكروه ؟! لماذا عدت ؟ّ ما بك هل أنت مريض ؟
- : أمي .. أمي كل ما هنالك أنني نسيت كتابا وعدت لآخذه , وجدتها فرصة لأشري لك هديه – أخرج القلادة وألبسها إياها –
- : لماذا يا ابني وجودك أنت وسعاد في حياتي هو أكبر هدية بالنسبة لي
احتضنها بقوه وقبل رأسها وكفيها , وهي اكتفت بأن رفعت كفيها تدعو له بدعاء الأمهات, فرحة بما غمرها به من برّ مفاجئ.
سار هو عبر الممر الضيق الذي يُفضي إلى غرفته ثم استدار وذهب باتجاه غرفة سعاد , دخلها تأملها , أخرج بعض المال من محفظته لفه بورقة كانت على مكتبها وكتب – سعاد كنت أنوي أن أشري لك هدية , لا أعرف ما يناسبك فتفضلي هذا المبلغ واشتري به ما يناسبك –
خرج من حجرة سعاد , من المنزل وصوت دعاء والدته لا زال مرفوعا , ركب سيارته وانطلق باتجاه جامعته يبدو أنه الآن أصبح يشعر بتحسن ورغبة في حضور محاضراته الجامعية , ويبدو أن الازدحام قد انفض , وفي نفس المكان الذي دُهست فيه القطه عاوده الشعور بخفقان شديد في قلبه وعاد ذلك المحيط إلى عينيه حتى فقد الرؤية , حاول أن يوقف السيارة جانبا ولكن يديه كمن تخشبت لم يعد يستطيع لها حراكاً , صوت اصطدام مدوي, ثم , فقد الوعي.
فاق حسن من الإغماءة الخفيفة أثر الاصطدام يحدث نفسه وهو يتأمل سيارته كان المشهد الأخير الذي ازدحم في مخيلته هو حادث الاصطدام
- : السيارة سليمة , وأنا كذلك , ألم يكن هناك حادث اصطدام , أعتقد أنني غفوت حين توقفت في المرة الأولى وكل ذاك كان حلم .
استدار بسيارته وعاد إلى المنزل أدخل المفتاح في القفل أداره , فتح الباب ودخل , والدته كانت تجلس على الأريكة في غرفة الجلوس تقرأ القرآن وتبكي وهي تضم بين كفيها قلادة من ذهب منقوش عليها آية الكرسي , وسعاد ترتدي ثوبا داكنا تجلس قرب النافذة وتبكي هي الأخرى وبيدها ورقة , خرج حسن وأقفل الباب وجلس على العتبة الخارجية يحدق في المارة هاربا من النواح داخل المنزل وقد صُبغ وجهه بصفرة الأموات , بمرارة قال:
- : لا .. لست بحلم يا حسن .





0 التعليقات:

إرسال تعليق